فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)}
قوله تعالى: {لاَ تَأْمَنَّا}: حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة {تأمَنَّا} بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْسًا، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغامًا. قال الداني: وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس.
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئًا مِن الضم نحو: {قِيلَ} [البقرة: 11] و: {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئًا من الآخر كإشمام الصاد زايًا في: {الصراط} [الفاتحة: 5]: {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 78] وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضًا في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى.
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز {لا تَأْمُنَّا} بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها.
وقرأ أبو رزين وابن وثاب {لا تِيْمَنَّا} بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: ومجيئُه بعد {مالك} والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم ما أَحْسَنَنا في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ بالنفي. قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله لالتبس بالنفي صحيح.
قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}: فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير {نَرْتَع ونلعب} بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلًا وَوَقْفًا وحَذْفُها وصلًا ووقفًا، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر {نرتَعْ ونلعبْ} بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: {يرتعْ ويلعبْ} بالياء من تحت وسكون العين والباء.
وقرأ جعفر بن محمد {نرتع} بالنون {ويلعب} بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة {يَرْتَع ويلعبُ} بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن {نُرْتَعْ} بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب {نرتع} بالنون و{يلعب} بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل.
وقرأ زيد بن علي {يُرْتَع ويُلْعَب} بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول. وقرئ: {نرتعي ونلعبُ} بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة {نَرْعي ونلعب} فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ.
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذًا مِنْ يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذًا مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال:
يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ

ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزومًا، ومَنْ رفعها جعله مرفوعًا على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في {يلعب} دون {نرتع} فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: {نُرْتِع} رباعيًا جعل مفعوله محذوفًا، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعًا واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله:
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامرًا

ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالًا مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في {نَرْتعي} مع جزم {نلعب} وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد:
ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي **.................

وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً.
و{نَرْتع} يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال:
تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا ** رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ

ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة وقال الشاعر:
أكفرًا بعد رَدِّ الموت عني ** وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا

قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة حالية، والعامل فيها أحدُ شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المسألةُ من الإِعمال لأنَّ كلًا من العاملين يصحُّ تَسَلُّطُه على الحال؟ فالجواب: ذلك لا يجوز، لأن الإِعمالَ يَسْتَلْزم الإِضمار، والحال لا تُضْمر؛ لأنها لا تكون إلا نكرةً أو مؤولةً بها.
قوله تعالى: {أَن تَذْهَبُواْ}: فاعل {يَحْزُنني}، أي: يَحْزنني ذهابُكم. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ المضارعَ المقترن بلام الابتداء لا يكون حالًا، والنحاةُ جَعَلوها مِن القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة أنَّ {أَنْ تَذْهبوا} مستقبلٌ لاقترانه بحرفِ الاستقبال وهي {أنْ}، وما في حيزها فاعلٌ، فلو جَعَلْنا {لَيَحْزُنني} حالًا لزم سَبْقُ الفعل لفاعله وهو محالٌ. وأجيب عن ذلك بأنَّ الفاعلَ في الحقيقة مقدرٌ حُذِف هو وقام المضافُ إليه مَقامه، والتقدير: ليحزنني تَوَقُّعُ ذهابِكم.
وقرأ زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن: {لَيَحْزُنِّي} بالإِدغام. وقرأ زيد بن علي وحده {تُذْهبوا} بضم التاء مِنْ أذهب، وهو كقوله: {تُنْبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] في قراءة مَنْ ضم التاء فتكون الباءُ زائدةً أو حالية.
و{الذئب} يُهْمَز ولا يُهْمز، وبعدم الهمزة قرأ السوسي والكسائي وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا: وهو مشتقٌّ مِنْ تذاءَبَتِ الرِّيح: إذا هَبَّتْ مِنْ كل جهة لأنه يأتي كذلك، ويُجْمع على ذِئاب وذُؤبان وأَذْئُب قال:
وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ ** تعاوى به ذُؤْبانه وثعالِبُهْ

وأرضٌ مَذْأَبة: كثيرة الذئاب، وذُؤابة الشعر لتحرُّكِها وتَقَلُّبها، مِنْ ذلك.
وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} جملة حالية العامل فيها {يأكله}.
قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}: جملةٌ حالية أو معترضة، و: {إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم وحُذِف جوابُ الشرط. و{إذن} حرفُ جوابٍ، وقد تَقَدَّم القولُ في ذلك مُشْبعًا، ونقل أبو البقاء أنه قرئ: {عُصْبَةً} بالنصب، وقدَّر ما قدَّمْتُه في الآية الأولى.
قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ}: يجوز في جوابها أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ، أي: عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة. وقدَّره الزمخشري: فَعَلُوا به ما فَعَلوا مِن الأذى وذكر حكايةً طويلة. وقدَّره غيرُه: عَظُمَتْ فِتْنَتُهم. وآخرون جَعَلوه فيها. وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أنَّ الجوابُ مثبتٌ، وهو قولُه: {قَالُواْ ياأبانا إِنَّا ذَهَبْنَا}، أي: لمَّا كان كيت وكيت قالوا. وهذا فيه بُعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه.
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: {وأَوْحَيْنا} والواو فيه زائدةٌ، أي: فلمَّا ذهبوا به أَوْحَينا، وهو رأيُ الكوفيين، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ} [الصافات: 103]، أي: تَلَّه. وقوله: {حتى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ} [الزمر: 71] وقولَ امرئ القيس:
فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ** بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنِقْلِ

أي: فلمَّا أَجَزْنَا انتحى. وهو كثيرٌ عندهم بعدَ {لَمَّا}.
وقوله: {أَن يَجْعَلُوهُ} مفعول {أَجْمعوا}، أي: عَزَموا على أن يَجْعلوه، أو عَزَموا أنْ يجعلوه، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى، ف {أنْ} يُحْتمل أن تكونَ على حذف الحرف، وأن لا تكون، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ، وعلى الثاني يتعيَّن النصبُ.
والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء، وأن يكونَ بمعنى التصيير، فعلى الأولِ يتعلَّق {في غيابة} بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني بمحذوفٍ. والفعلُ مِنْ قوله: {وأَجْمعوا} يجوزُ أن يكونَ معطوفًا على ما قبله، وأن يكون حالًا، و{قد} معه مضمرةٌ عند بعضهم. والضمير في {إليه} الظاهر عَوْدُه على يوسف. وقيل: يعود على يعقوب.
وقرأ العامَّةُ: {لَتُنَبِّئنَّهُمْ} بتاء الخطاب. وقرأ ابن عمر بياء الغيبة، أي: اللَّه تعالى..
قال الشيخ: وكذا في بعض مصاحف البصرة وقد تقدَّم أن النَّقْطَ حادثٌ، فإن قال: مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سَلاَّم: {لنُنَبِّئَنَّهم} بالنون. و{هذا} صفةٌ لأَمْرهم. وقيل: بدلٌ. وقيل: بيان.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حالية، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها {أَوْحَيْنا}، أي: أوحينا إليه من غير شعور بالوحي، وأن يكونَ العاملُ فيها {لَنُنَبِّئَنَّهم}، أي: تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ الأحوال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}
كلامُ الحسودِ لا يُسْمَع، ووعدُه لا يُقْبل- وإنْ كانا في مَعْرِضِ النُّصحِ؛ فإِنَّهُ يُطْعِمُ الشَهْدَ ويَسْقِي الصَّابَ.
ويقال العَجَبُ من قبول يعقوب عليه السلام ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرَّسَ فيهم قلبه فقال ليوسف: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًْا} [يوسف: 5] ويكن إذا جاء القضاءُ فالبصيرةُ تصير مسدودةً.
ويقال من قِبَلَ على محبوبه حديثَ أعدائه لَقِيَ ما لَقِي يعقوبُ في يوسف- عليهما السلامُ- من بلائه.
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)}
يقال أطمعوا يعقوبَ عليه السلام في تمكينهم من يوسف بما فيه راحةُ نَفْسٍ في اللعب، فطابَتْ نَفْسُ يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه- وإنْ كان يشَقُّ عليه فراقُه، ولكنَّ المحبَّ يؤثِرُ راحةَ محبوبه على محبةِ نَفْسِه.
ويقال ما رَكَنَ إلى قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}- أي مِنْ قِبَلهِمِ- حتى قالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]؛ فَمَنْ أسَلم حبيبَه إلى أعدائه غُصَّ بتحسِّي بلائه.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)}
يَحْزُنني أن تذهبوا به لأني لا أصْبِر عن رؤيته، ولا أطيق على فُرقتِه... هذا إذا كان الحالُ سلامته... فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟!
ويقال: لما خاف عليه من الذئب امتُحِنَ بحديث الذئب، ففي الخبر ما معناه: إنما يُسَلِطُ على ابن آدم ما يخافه وكان في حقه أن يقول أخافُ الله لا الذئب، وإنْ كانت مَحَالُّ الأنبياء- عليهم السلام- محروسةً من الاعتراض عليها.
ويقال لمَّا جرى على لسان يعقوب عليه السلام من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهْتَدَوْا إلى الذئب.
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}
لَحقَ إخوة يوسف عليه السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا: {إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ}: لأنَّ مَنْ باع أخًا مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيقٌ بأن يقال قد خسرت صفقتُه.
ويقال لمَّا عدُّوا القوة في أنفسهم حين قالوا: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} خُذِلُوا حتى فعلوا.
ويقال لمَّا رَكَنَ يعقوبُ عليه السلام إلى قولهم: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} لَقِيَ ما لَقِيَ.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
الجوابُ فيه مُقَدَّر؛ ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه في البئر فعلوا ما عزموا عليه. أو فلمَّا ذهبوا به وألقوه في غيابة الجُبِّ أوحينا إليه؛ فتكون الواو صلة. والإشارة فيه أنه لمَّ حَلَّتْ به البلوى عجَّلنا له التعريفَ بما ذكرنا من البُشرَى؛ ليكون محمولًا بالتعريف فيما هو محتمِّلٌ له من البلاء العنيف.
ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاةٌ أبيه حَصَلَ له الوحيُ مَنْ قِبَل مولاه، وكذا سُنَّتُه تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه بابًا من البلاءِ إلا فَتَحَ على قلوبهم أبوابَ الصفاء، وفنون لطائف الولاء. اهـ.

.تفسير الآيات (16- 18):

قوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل إلا الاعتذار، عطف على الجواب المقدر قوله: {وجاؤوا أباهم} دون يوسف عليه الصلاة والسلام: {عشاء} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبيهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار.
والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع: {يبكون} والبكاء: جريان الدمع في العين عند حال الحزن، فكأنه قيل: إنهم إذا بكوا حق لهم البكاء خوفًا من الله وشفقة على الأخ، ولكن ماذا يقولون إذا سألهم أبوهم عن سببه؟ فقيل: {قالوا ياأبانا}.
ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة، أكدوا فقالوا: {إنا ذهبنا نستبق} أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك: {وتركنا يوسف} أخانا: {عند متاعنا} أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه: {فأكله} أي فتسبب عن انفراده أن أكله: {الذئب وما} أي والحال أنك ما: {أنت بمؤمن لنا} أي من التكذيب، أي بمصدق: {ولو كنا} أي كونًا هو جبلة لنا: {صادقين} أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك، لأنك لم تجرب علينا قط كذبًا، ولا حفظت عنا شيئًا منه جدًا ولا لعبًا.
ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل على بطلانه، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه، أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم.
فقال تعالى حاكيًا عنهم: {وجاؤوا على قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام: {بدم كذب} أي مكذوب، أطلق عليه المصدر مبالغة لأنه غير مطابق للواقع، لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها- نقله الرماني عن ابن عباس- رضى الله عنهما- وعن مجاهد.
قال: والدم: جسم أحمر سيال، من شأنه أن يكون في عروق الحيوان، وله خواص تدرك بالعيان من ترجرج وتلزج وسهوكة، وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخذ القميص منهم وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، وكان القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم، ودلالته على صدق يوسف عليه الصلاة والسلام في قده من دبر، وعود البصر إلى أبيه به، فكأنه قيل: هل صدقهم؟ فقيل: لا! لأن العادة جرت في مثله أنه لا يأكله كله، فلابد من أن يبقى منه شيء يعرف معه أنه هو، ولو كان كذلك لأتوا به تبرئة لساحتهم وليدفنوه في جبانتهم مع بقية أسلافهم، وقد كان قادرًا على مطالبتهم بذلك، ولكنه علم أنهم ما قالوا ذلك إلا بعد عزم صادق على أمور لا تطاق، فخاف من أن يفتح البحث من الشرور أكثر مما جاؤوا به من المحذور، بدليل قوله بعد ذلك: {فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ونحو ذلك، فكأنه قيل: فماذا قال؟ فقيل: {قال بل} أي لم يأكله الذئب، بل: {سولت} أي زينت وسهلت، من السول وهو الاسترخاء: {لكم أنفسكم أمرًا} أي عظيمًا أبعدتم به يوسف: {فصبر} أي فتسبب عن ذلك الفادح العظيم أنه يكون صبر: {جميل} منى، وهو الذي لا شكوى معه للخلق: {والله} أي المحيط علمًا وقدرة: {المستعان} أي المطلوب منه العون: {على} احتمال: {ما تصفون} من هلاك يوسف عليه الصلاة والسلام، ولا يقال: إنهم بهذا أجمعوا أوصاف المنافق «إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان» لأن هذا وقع منهم مرة، والمنافق يكون ذلك فعله دائمًا أو في أغلب أحواله، ومادتا سول بتقاليبها الخمسة: ولس وسلًا ووسل ولوس وسول، وسيل بتقاليبها الخمسة: لسي ويسل وسيل وسلي وليس، تدوران على ما يطمع فيه من المراد، ويلزمه رغد العيش والزينة وبرد القلب والشدة والرخاوة والعلاج والمخادعة والملازمة، فمن الرجاء للمراد: السول- بالواو، وقد يهمز، وهو المطلوب؛ والوسيلة: الدرجة والمنزلة عند الملك، قال القزاز: وقيل: توسلت وتوصلت- بمعنى، والوسيلة: الحاجة، ووسل فلان- إذا طلب الوسيلة؛ واللؤس: الظفر؛ ومن العمل والعلاج: توسل بكذا- أي تقرب، واللوس: الأكل، ولاس الشيء في فيه بلسانه- إذا أداره، وولست الناقة في مشيتها تلس ولسانًا: تضرب من العنق؛ ومن رغد العيش: فلان في سلوة من العيش، أي رغد يسليه الهم، ومنه السلوى، وهي طائر معروف، وهي أيضًا العسل، وأسلي القوم: إذا أمنوا السبع: ومن الزينة: سولت له نفسه كذا، أي زينته فطلبه؛ ومن برد القلب: سلوت عن الشيء: إذا تركه قلبك وكان قد صبا به، وسقيتني منك سلوة، أي طيبت نفسي عنك، والليس- محركًا: الغفلة، والأليس: الديوث لا يغار، والحسن الخلق، وتلايس عنه: أغمض؛ ومن الرخاوة: السلي الذي يكون فيه الولد، وهو يائي تقول منه:
سليت الشاة كرضى سلي: انقطع سلاها، ومنه السول، وهو استرخاء في مفاصل الشاة، والسحاب الأسول: الذي فيه استرخاء لكثرة مائه، والأسول: المسترخي، ومنه: ليس أخت كان- لأن الشيء إذا زاد في الرخاوة ربما عد عدمًا، ومنه: سال- بمعنى: جرى، والسائلة من الغرر: المعتدلة في قصبة الأنف، وأسال غرار النصل: أطاله، والسيلان- بالكسر: سنخ قائم السيف، والسيالة: نبات له شوك أبيض طويل، إذا نزع خرج منه اللبن، أو ما طال من السمر؛ ومن المخادعة: الولس، وهي الخيانة، والموالسة: المداهنة، والتوسل: السرقة؛ ومن اللزوم: الليس- محركًا والمتلايس: البطيء، وهو أيضًا من الرخاوة، والأليس: من لا يبرح منزله؛ ومن الشدة: الليس- محركًا وهو الشجاعة، وهو أليس، والأليس: البعير يحمل ما حمل، والأسد، ووقعوا في سلي جمل: أمر صعب، لأن الجمل لا سلي له، وانقطع السلي في البطن مثل كبلغ السكين العظم، ويمكن أن يكون من الشدة أيضًا: اليسل- بفتح وسكون- وهم يد أي جماعة من قريش الظواهر، والبسل- بالباء الموحدة: اليد الأخرى، ولسا: أكل أكلًا شديدًا. اهـ.